ترحيب

إِذا شئتَ أن تحيا سليماً من الأذى ... وديُنك موفوراً وعْرِضُكَ صينُ

فلا ينطقنْ منكَ اللسانُ بَسوْأةٍ ... فكلك سَوْءاتٌ وللناسِ أعينُ

وعينُكَ إِن أبدتْ إِليك معايباً ... فصُنْها وقُلْ يا عينُ للناسِ أعينُ

وعاشرْ بمعروفٍ وسامحْ من اعتدى ... ودافعْ ولكن بالتي هي أَحْسَنُ

الشافعي


الثلاثاء، 23 سبتمبر 2014

الفصل الاول - الشخصيات الاسلامية



الفصل الاول

الشخصيات الاسلامية
(أ) سيدي محمد رسول الله صلي الله عليه وسلم
          لما كان صلي الله عليه وسلم أعظم رجل عرفه التاريخ كان لزاما علىّ أن أستهل كتابي هذا بذكر موجز عن ذاته الشريفة التى لم يتسن لأى أديب مهما أوتى من البلاغة ولا لأى مؤرخ مهما أوتى من البراعة أن يعبر عن معشار ما هو عليه من صفات وحقيقة وكفى به عزاً وفخراً لم ينله أحد من العالمين من قبله ولا من بعده ما وصفه الله سبحانه وتعالى به في محكم التنزيل قال تعالى: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)[1] وقال تعالي: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ)[2] الى غير ذلك من الآيات التي تثبت علو قدره ورفعة شأنه، وقال صلي الله عليه وسلم محدثاً عن نفسه: (أدبني ربي فأحسن تأديبي)[3] .
          فأقول فهو صلي الله عليه وسلم أول قائد ومشرع للأمة الاسلامية بل هو أول مصباح أضاء الله به الكون عامة والجزيرة العربية خاصة من ظلمات الجهل والظلم إلى نور العلم والعدل قد بعثه الله على فترة من الرسل رحمة بالعالمين فبلغ الرسالة وأدى الأمانة وجاهد في الله حق جهاده ونصح الأمة وعبد الله  حتى أتاه اليقين فهو أفضل خلق الله وأشرف الرسل، نبى الرحمة وإمام المتقين وحامل لواء الحمد وصاحب الشفاعة والمقام المحمود والحوض المورود، آدم ومن هو دونه يوم القيامة تحت لوائه فهو خير الأنبياء وأمته خير الأمم وأصحابه أفضل الناس بعد الأنبياء وملته أشرف الملل له المعجزات الباهرة والخلق العظيم والعقل الكامل السليم والنسب الأشرف والجمال المطلق والكرم الأوفر والشجاعة التامة والحلم الزائد والعلم النافع والعمل الأرفع والخوف الأكمل والتقوى الباهرة فهو أفصح الخلق وأكملهم في كل صفات الكمال وأبعد الخلق عن الدناءات والنقائص وفيه قال الشاعر أبو الطيب المتنبي:
لم يَخْلُقِ الرّحْمنُ مثلَ مُحَمّدٍ ... أحَداً وَظَنّي أنّهُ لا يَخْلُقُ
وأمّا حلمه وجوده وشجاعته وحياؤه وحسن عشرته وغير ذلك من الفضائل التى تجمعها كلمة مكارم الأخلاق لا تكاد تنحصر فقد صنف العلماء والأدباء المتقدمين منهم والمتأخرين في سيرته الحسنة وشمائله المرضية مصنفات بشتى اللغات واللهجات، ونظراً لغفلة المسلمين في هذا الوقت عن أمر دينهم أردت أن أذكر فيما يلي شيئاً يسيراً من دلائل نبؤته ومعجزاته كى يستقيظ بها من كان غافلاً عن أمر دينه وقدر نبيه ولكي يزداد بها المؤمنون إيماناً ويقيناً .
من دلائل النبوة :
     روي ابن أبي الدنيا وغيره باسناد مرفوع إلي أبى ذر رضي الله عنه قَالَ: (قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيفَ علمت أَنَّك نَبيا أَوَّلَ مَا عَلِمْتَ حَتَّى عَلِمْتَ ذَاكَ وَاسْتَيْقَنْتَ قَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ أَتَانِي مَلَكَانِ وَأَنَا بِبَطْحَاءِ مَكَّةَ فَوَقَعَ أَحَدُهُمَا فِي الْأَرْضِ وَالْآخَرُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ أَهُوَ هُوَ قَالَ هُوَ هُوَ قَالَ زِنْهُ بِرَجُلٍ فَوُزِنْتُ رجل فَرَجَحْتُهُ ثُمَّ قَالَ زِنْهُ بِعَشَرَةٍ فَوَزَنُونِي بِعَشَرَةٍ فَوَزَنْتُهُمْ فَرَجَحْتُهُمْ ثُمَّ قَالَ زِنْهُ بِمِائَةٍ فَوَزَنُونِي بِمِائَةٍ فَرَجَحْتُهُمْ ثُمَّ قَالَ زِنْهُ بِأَلْفٍ فَوَزَنُونِي بِأَلْفٍ فَرَجَحْتُهُمْ فَجَعَلُوا يَنْشُرُونَ عَلَيَّ مِنْ كَفَةِ الْمِيزَانِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآَخَرِ لَوْ وَزَنْتُهُ بِأُمَّتِهِ رَجَحَهَا ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ شُقَّ بَطْنَهُ فَشَقَّ بَطْنِي ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ أَخْرِجْ قَلْبَهُ أَوْ قَالَ شُقَّ قَلْبَهُ فَشَقَّ قَلْبِي فَأَخْرَجَ مَغْزَى الشَّيْطَانِ عَلَقَ لِدَمٍ فَطَرَحَهَا ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا للْآخر اغسل بَطْنه غسل الْإِنَاءَ وَقَلْبَهُ غَسْلَ الْمِلَاءَةِ ثُمَّ رَمَى بِسِكِّينِةٍ كَأَنَّهُ زُمُرُّدَةٌ بَيْضَاءُ فَأُدْخِلَتْ قَلْبِي ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ خِطْ بَطْنَهُ فَخَاطَبَطْنِي فَجَعَلَ الْخَاتِمَ بَيْنَ كَتِفَيَّ فَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ وَلَّيَا عَنِّي فَكَأَنَّمَا أُعَايِنُ الْأَمْرَ مُعَايَنَةً)[4].
     وزيادة علي ما في هذا الحديث من كرامة لرسول الله صلي الله عليه وسلم فإن فيه من الفوائد. أن خاتم النبوة لم يكن يعرف قبل ذلك واختلف العلماء فى صفته علي أقوال كثيرة .
من دلائل النبوة أيضا :
     روي الحاكم والترمزى في مناقبه صلي الله عليه وسلم عن أبي موسي رضي الله عنه قَالَ: خَرَجَ أبوطَالِبٍ إِلَىٰ الشَّامِ وَخَرَجَ مَعَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي أَشْيَاخٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَلَمَّا أَشْرَفُوا عَلَىٰ الرَّاهِبِ، وَكَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ يَمُرُّونَ بِهِ فَلَا يَخْرُجُ إِلَيْهِمْ، وَلَا يَلْتَفِتُ. قَالَ: فَهُمْ يَحُلُّونَ رِحَالَهُمْ، فَجَعَلَ يَتَخَلَّلُهُمْ الرَّاهِبُ حَتَّىٰ جَاءَ فَأَخَذَ بِيَدِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فقَالَ: هَذَا سَيِّدُ الْعَالَمِينَ، هَذَا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، يَبْعَثُهُ الله رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، فَقَالَ لَهُ أَشْيَاخٌ مِنْ قُرَيْشٍ: مَا عِلْمُكَ، فَقَالَ: إِنَّكُمْ حِينَ أَشْرَفْتُمْ مِنْ الْعَقَبَةِ لَمْ يَبْقَ شَجَرٌ وَلَا حَجَرٌ إِلَّا خَرَّ سَاجِدًا وَلَا يَسْجُدَانِ إِلَّا لِنَبِيٍّ، وَإِنِّي أَعْرِفُهُ بِخَاتَمِ النُّبُوَّةِ أَسْفَلَ مِنْ غُضْرُوفِ كَتِفِهِ مِثْلَ التُّفَّاحَةِ، ثُمَّ رَجَعَ فَصَنَعَ لَهُمْ طَعَامًا، فَلَمَّا أَتَاهُمْ بِهِ وَكَانَ هُوَ فِي رِعْيَةِ الْإِبِلِ، قَالَ: أَرْسِلُوا إِلَيْهِ، فَأَقْبَلَ وَعَلَيْهِ غَمَامَةٌ تُظِلُّهُ، فَلَمَّا دَنَا مِنْ الْقَوْمِ وَجَدَهُمْ قَدْ سَبَقُوهُ إِلَىٰ فَيْءِ الشَّجَرَةِ، فَلَمَّا جَلَسَ مَالَ فَيْءُ الشَّجَرَةِ عَلَيْهِ، فَقَالَ: انْظُرُوا إِلَىٰ فَيْءِ الشَّجَرَةِ مَالَ عَلَيْهِ، قَالَ: فَبَيْنَمَا هُوَ قَائِمٌ عَلَيْهِمْ وَهُوَ يُنَاشِدُهُمْ أَنْ لَا يَذْهَبُوا بِهِ إِلَىٰ الرُّومِ، فَإِنَّ الرُّومَ إِذَا رَأَوْهُ عَرَفُوهُ بِالصِّفَةِ فَيَقْتُلُونَهُ، فَالْتَفَتَ فَإِذَا بِسَبْعَةٍ قَدْ أَقْبَلُوا مِنْ الرُّومِ فَاسْتَقْبَلَهُمْ، فَقَالَ: مَا جَاءَ بِكُمْ؟ قَالُوا: جِئْنَا إِنَّ هَذَا النَّبِيَّ خَارِجٌ فِي هَذَا الشَّهْرِ، لَمْ يَبْقَ طَرِيقٌ إِلَّا بُعِثَ إِلَيْهِ بِأُنَاسٍ، وَإِنَّا قَدْ أُخْبِرْنَا خَبَرَهُ بُعِثْنَا إِلَىٰ طَرِيقِكَ هَذَا، فَقَالَ: هَلْ خَلْفَكُمْ أَحَدٌ خَيْرٌ مِنْكُمْ؟ قَالُوا: إِنَّمَا أُخْبِرْنَا خَبَرَهُ بِطَرِيقِكَ هَذَا. قَالَ: أَفَرَأَيْتُمْ أَمْرًا أَرَادَ الله أَنْ يَقْضِيَهُ هَلْ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ رَدَّهُ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَبَايَعُوهُ وَأَقَامُوا مَعَهُ، قَالَ: أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ أَيُّكُمْ وَلِيُّهُ؟ قَالُوا: أبو طَالِبٍ، فَلَمْ يَزَلْ يُنَاشِدُهُ حَتَّىٰ رَدَّهُ أبو طَالِبٍ وَبَعَثَ مَعَهُ أبو بَكْرٍ بِلَالًا، وَزَوَّدَهُ الرَّاهِبُ مِنْ الْكَعْكِ وَالزَّيْتِ)[5].
    فسبحان من أختاره واصطفاه وأتم نعمته عليه وبعثه رحمة للعالمين فإعتبر هداني الله واياك بما جاء في هذه الفوائد .
معجزاته صلي الله عليه وسلم :
(1) روي الدارقطن والبيهقى وشيخه الحاكم وشيخه بن عدي عن ابن عمر عن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – أن رسول الله كان في محفل من أصحابه إذ جاء أعرابي من بني سليم قد صاد ضباً وجعله في كمه ليذهب به إلى رحله فيشويه ويأكله فلما رأى الجماعة، قال: ما هذا ؟ قالوا: هذا الذي يزعم أنه نبي: فجاء حتى شق الناس: فقال: واللات والعزى ما اشتملت النساء على ذي لهجة أبغض إليّ منك ولا أمقت ولولا أن يسميني قومي عجولاً لعجلت عليك فقتلتك فسررت بقتلك : الأسود والأحمر والأبيض وغيرهم ، فقال عمر بن الخطاب : يارسول الله: دعني فأقوم فأقتله . قال: " يا عمر: أما علمت أن الحليم كاد أن يكون نبياً " ثم أقبل على الأعرابي فقال: ( ما حملك على أن قلت ما قلت ؟ وقلت غير الحق ؟ ولم تكرمني في مجلسي ؟) قال: وتكلمني أيضاً ؟ استخفافاً برسول الله واللات والعزى لا آمنت بك أو يؤمن بك هذا الضب وأخرج الضب من كمه وطرحه بين يدي رسول الله فقال رسول الله : ( يا ضب ؟ (فأجابه الضب بلسان عربي مبين يسمعه القوم جميعاً: لبيك وسعديك يا زين من وافى القيامة. قال: ( من تعبد يا ضب ؟ ) قال: الذي في السماء عرشه ، وفي الأرض سلطانه، وفي البحر سبيله وفي الجنة رحمته، وفي النار عقابه: قال: ( فمن أنا يا ضب ؟ ) قال: رسول الله رب العالمين، وخاتم النبيين، وقد أفلح من صدقك، وقد خاب من كذبك. قال الأعرابي: لا أتبع أثراً بعد عين والله لقد جئتك وما على ظهر الأرض أبغض إليّ منك، وإنك اليوم أحب إليّ من والدي ومن عيني، ومني وإني لأحبك بداخلي، وخارجي وسري وعلانيتي . أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله.
فقال رسول الله: ( الحمد لله الذي هداك بي، إن هذا الدين يعلو ولا يعلى عليه ولا يقبل إلا بصلاة ولا تقبل الصلاة إلا بالقرآن )، قال : فعلمني فعلمه { قل هو الله أحد } قال زدني : فما سمعت في البسيط ولا في الرجز أحسن من هذا .
قال يا أعرابي !: ( إن هذا كلام الله ليس بشعر إنك قرأت { قل هو الله أحد } مرة كان لك كأجر من قرأ ثلث القرآن وإن قرأت مرتين كان لك أجر من قرأ ثلثي القرآن، وإذا قرأتها ثلاث مرات، كان لك أجر من قرأ القرآن كله  قال الأعرابي : نعم الإله: إلهاً يقبل اليسير ويعطي الجزيل، فقال له رسول الله: ( ألك مال ) قال : فقال : ما في بني سليم قاطبه رجل هو أفقر مني، فقال رسول الله لأصحابه : ( أعطوه ) فأعطوه حتى أبطروه. فقام عبد الرحمن بن عوف فقال: يا رسول الله ! إن له عندي ناقة عشراء دون البختين وفوق الأعربي تلحق ولا تُلحق أهُديت إليّ يوم تبوك أتقرب بها إلى الله عز وجل وأدفعها إلى الأعرابي.
فقال رسول الله: ( قد وصفت ناقتك فأصف مالك عند الله يوم القيامة ) قال: نعم، قال: ( لك كناقة من درة جوفاء قوائمها من زبرجد أخضر وعنقها من زبرجد أصفر عليها هودج وعلى الهودج السندس والإستبرق وتمر بك على الصراط كالبرق الخاطف يغبطك بها كل من رآك يوم القيامة ). فقال عبد الرحمن: قد رضيت. فخرج الأعرابي فلقيه ألف أعرابي من بني سليم على ألف دابة. معهم ألف سيف وألف رمح . فقال لهم: أين تريدون ؟ فقالوا: نذهب إلى هذا الذي سفه آلهتنا فنقتله: قال: لا تفعلوا أنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فحدثهم الحديث، فقالوا بأجمعهم: لا إله إلا الله محمد رسول الله. ثم دخلوا فقيل للنبي:  فتلقاهم بلا رداء فنزلوا عن ركبانهم يقبلون حيث وافوا منه، وهم يقولون: لا إله إلا الله محمد رسول الله .
ثم قالوا: يا رسول الله أمرنا بأمرك، قال: ( كونوا تحت راية خالد بن الوليد ) فلم يؤمن من العرب ولا غيرهم ألف غيرهم)[6].
 (2)  روي بن ماجه  عن تميم الدارى رضي الله تعالى عنهما: قال: كنا جلوسا مع رسول الله إذ أقبل بعير يعدو حتى وقف على رسول الله فرغا.
فقال رسول الله: " أيها البعير اسكن فإن تك صادقا فلك صدقك، وإن تك كاذبا فعليك كذبك، مع أن الله تعالى قد أمن عائذنا، ولا يخاف لائذنا ".
قلنا: يا رسول الله ما يقول هذا البعير؟
قال: " هذا بعير هم أهله بنحره فهرب منهم، فاستغاث بنبيكم ".
فبينا نحن كذلك إذ أقبل أصحابه يتعادون فلما نظر إليهم البعير عاد إلى هامة رسول الله . فقالوا: يا رسول الله هذا بعيرنا هرب منا منذ ثلاثة أيام فلم نلقه إلا بين يديك.
فقال رسول الله :" يشكو مر الشكاية ". فقالوا: يا رسول الله ما يقول؟
قال: " يقول: إنه ربي في إبلكم حوارا وكنتم تحملون عليه في الصيف إلى موضع الكلأ، فإذا كان الشتاء رحلتم إلى موضع الدفء ". فقالوا: قد كان ذلك يا رسول الله.
فقال: ما جزاء العبد الصالح من مواليه؟ قالوا: يا رسول الله فإنا لا نبيعه ولا ننحره.
قال: " فقد استغاث فلم تغيثوه وأنا أولى بالرحمة منكم لأن الله نزع الرحمة من قلوب المنافقين وأسكنها في قلوب المؤمنين ".
فاشتراه النبي بمائة درهم ثم قال: " أيها البعير انطلق فأنت حر لوجه الله ".
فرغا على هامة رسول الله، فقال رسول الله: " آمين "، ثم رغا الثانية، فقال: " آمين " ثم رغا الثالثة، فقال: " آمين "، ثم رغا الرابعة، فبكى رسول الله .
فقلنا: يا رسول الله ما يقول هذا البعير؟
قال: يقول: جزاك الله أيها النبي عن الإسلام والقرآن خيرا. قلت: " آمين ".
قال: سكن الله رعب أمتك يوم القيامة كما سكنت رعبي، قلت: " آمين ".
قال: حقن الله دماء أمتك من أعدائها كما حقنت دمي، قلت: " آمين ".
قال: لا جعل الله بأسها بينها. فبكيت وقلت: " هذه خصال سألت ربي فأعطانيها ومنعني واحدة، وأخبرني جبريل عن الله أن فناء أمتك بالسيف فجرى القلم بما هو كائن ([7].
 (3)  قال الشيخ عبدالله بن النعمان في كتاب المستغيثين بخير الأنام حديث حنين الجذع الذى كان يخطب عليه النبى صلي الله عليه وسلم حنين العشار متواتر رواه من أصحاب النبي صلي الله عليه وسلم العدد الكثير والجم الغفير منهم جابر بن عبدالله وابن عمر ومن طريقهما أخرجه البخارى وانس بن مالك وعبدالله بن عباس وسهل بن سعد الساعدي وأبو سعيد الخدري وخلافهم :
 (حَدَّثَنَا خَلَّادُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَيْمَنَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ امْرَأَةً مِنْ الْأَنْصَارِ، قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَلَا أَجْعَلُ لَكَ شَيْئًا تَقْعُدُ عَلَيْهِ ، فَإِنَّ لِي غُلَامًا نَجَّارًا؟ قَالَ: إِنْ شِئْتِ، قَالَ: فَعَمِلَتْ لَهُ الْمِنْبَرَ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ قَعَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ الَّذِي صُنِعَ، فَصَاحَتِ النَّخْلَةُ الَّتِي كَانَ يَخْطُبُ عِنْدَهَا، حَتَّى كَادَتْ تَنْشَقَّ، فَنَزَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَخَذَهَا فَضَمَّهَا إِلَيْهِ، فَجَعَلَتْ تَئِنُّ أَنِينَ الصَّبِيِّ الَّذِي يُسَكَّتُ حَتَّى اسْتَقَرَّتْ، قَالَ : بَكَتْ عَلَى مَا كَانَتْ تَسْمَعُ مِنَ الذِّكْرِ ([8] ، قال جابر في روياته فصاحت الخشبة فضمها إليه، في حديثه أيضا سمعنا لذلك الجذع صوتاً كصوت العشار وفي رواية أبن عمر رضي الله عنهما، لما أتخذ رسول الله صلي الله عليه وسلم المنبر تحول إليه فبكي الجذع فاتاه فمسح بيده عليه وفي بعض الروايات قال رسول الله صلي الله عليه وسلم والذي نفسي بيده لو لم التزمه لم يزل هكذا الي يوم القيامة تحزنا عليّ .
          وكان الحسن رضي الله عنه اذا حدث بهذا الحديث بكي وقال ياعباد الله الخشبة تحن إلي رسول الله صلي الله عليه وسلم شوقاً إلي لقائه وقد نظم صالح الشافعي في ذلك فقال:
وحن اليه الجذع شوقاً ورقة
ورجع صوتاً كالعشار مرددا
فبادره ضما فقر لوقته
ولكل امرىء من دهره ما تعدوا
وحنين الجذع وتسليم الحجارة عليه لم يثبت لأحد من الانبياء غيره صلي الله عليه وسلم .
          فأرجوك أيها القارىء الكريم أن تمعن النظر وتعيد الكرة في تلاوة تلك الدلائل والمعجزات كلما سمح لك الوقت لأنها تزيد في الإيمان وتعطف القلوب علي حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه من أكبر النعم وخير الغنائم وفقنى الله وإياك إلى أعمال البر والخيرات .
(ب) الامام جعفر الصادق :
     هو جعفر بن محمد الباقر بن علي (زين العابدين) بن الحسين بن علي ابن أبي طالب رضى الله تعالي عنهم أجمعين .
          وأمه أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأم القاسم أسماء بنت عبدالرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهم، فكان يقول ولدني الصديق مرتين، وكنيته ابوعبدالله وقيل أبو أسماعيل والقابه ثلاثة الصادق والفاضل والطاهر وأشهرها الصادق، هو أحد الأئمة الاثني عشر على مذهب الامامية من سادات آل البيت وقد لقب بالصادق لصدقه في مقالته .
          ولد رضي الله عنه سنة ثمانين من الهجرة وقيل سنة ثلاثة وثمانين وتوفي سنة ثمان واربعين ومائة، كان رضي الله عنه من العلماء الموهوبين فهو أديب بارع قد أعطاه الله الحكمة وفصل الخطاب وكان مستجاب الدعاء ونقائبه كثيرة لا تحصى ومن معاصريه أبو جعفر المنصور .
   روي عن جماعة من أعيان الائمة وأعلامهم كيحيى بن سعيد وأبن جريح ومالك بن أنس والثوري وابو حنيفة وأيوب السخيتياني وغيرهم ، قال أبو حاتم: جعفر الصادق ثقة لا مثيل له .
   قال جعفر لأبي حنيفة بلغني انك تقيس في الدين وأول من قاس ابليس فقال أبو حنيفة رضي الله عنه انما أقيس فيما لا أجد فيه نصاً، قد ثبت في ترجمة الامام ابو حنيفة الواردة في كتب التاريخ والحديث انه كثيراً ما كان يعتمد علي القياس في بعض المسائل الفقهية في مذهبه وذلك يعزى لنشأته بالعراق بعيداً عن الأمصار التى كان يكثر فيها رواة الحديث من الصحابة والتابعين .
   (قال) ابن ابي حازم كنت عند جعفر الصادق يوماً واذا بسفيان الثوري بالباب فقال ائذن له فدخل فقال له جعفر ياسفيان انك رجل يطلبك السلطان في بعض الاحيان وتحضر عنده وأنا أتقي السلطان فاخرج عني غير مطرود فقال سفيان حدثني حديثاً أسمعه منك وأقوم فقال له جعفر حدثني أبي عن جدي عن ابيه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: (من أنعم الله عليه نعمة فليحمد الله ومن أستبطأ عليه رزقه فليستغفر الله ومن حز به أمر فليقل لا حول ولا قوة الا بالله)، فلما قام سفيان قال جعفر خدها ياسفيان ثلاثا وأي ثلاث .
          الامام جعفر له مقال في صنعة الكيمياء والزجر والفأل وعن ابن قتيبة أنه قال في كتاب أدب الكاتب أن كتاب الجفر الذي كان من جلد جفر[9] كتب فيه الامام جعفر الصادق لأهل البيت كل ما يحتاجون إلي علمه وكل ما يكون إلى يوم القيامة وقد ورد ذلك ايضاً في تاريخ ابن خلكان هذا وان كثيرا من الناس ينسبون كتاب الجفر إلى علي بن ابي طالب رضي الله تعالي عنه وهو وهم والصواب ان الذى وضعه هو الامام جعفر الصادق  وإلى هذا الجفر أشار ابو العلاء المعرى بقوله :
قد عجِبُوا لآل البيتِ لمّا ... أتـاهم علمُهم في جلْدِ جَفْرِ
ومرآةُ المُنجِّمِ وهْي صُغرى.. تُـريهم كـلَّ عامرةٍ وقَفْرِ!
          ومن وصاياه لإبنه موسى الكاظم: يابني أحفظ وصيتي تعش سعيدا وتمت شهيدا يابني أن من قنع بما قسم الله له أستغني، ومن مد عينيه إلى ما في يد غيره مات فقيرا، وان من لم يرضي بما قسم الله له أتهم الله في قضائه، ومن استصغر زلة نفسه استعصم بزله غيره، يابنى من كشف حجاب غيره أنكشفت عورات بيته، ومن سل سيف البغي قتل به، ومن حفر لأخيه بئرا وقع فيها، ومن داخل السفهاء حُقر، ومن خالط العلماء وقر، ومن دخل مداخل السوء أُتهم. يابني قل الحق لك أو عليك وإياك والنميمة فإنها تزرع الشحناء في قلوب الرجال . يابني إذا طلبت الجود فعليك بمعادنه .
كراماته:
الأولي: روي عبدالله بن الفضل بن الربيع عن أبيه أنه قال لما حج المنصور سنة سبع وأربعين ومائة قدم المدينة فقال للربيع ابعث إلى جعفر بن محمد من ياتينا به متعبا قتلني الله إن لم أقتله، فتغافل الربيع عنه وتناساه فأعاد عليه في اليوم الثانى وأغلظ عليه في القول فأرسل إليه الربيع فلما حضر قال له الربيع يا عبد الله أذكر الله تعالي فإنه قد أرسل لك من لا يدفع شره إلا  الله وإنى أتخوف عليك فقال جعفر لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
          ثم أن الربيع دخل به علي المنصور فلما رآه المنصور أغلظ له في القول وقال ياعدو الله أتخذك أهل العراق أماما يجبون إليك زكاة أموالهم وتلحد في سلطانى وتتبع لي الفوائل قتلني الله إن لم أقتلك فقال جعفر يا أمير المؤمنين أن سليمان أعطي فشكر وأن ايوب ابتلي فصبر وان يوسف ظلم فغفر وهؤلاء أنبياء الله وإليهم يرجع نسبك ولك فيهم أسوة حسنة، فقال المنصور أجل يا عبد الله ارتفع الي هنا عندى ثم قال له ياعبد الله ان فلانا أخبرنى عنك بما قلت لك، فقال أحضره يا أمير المؤمنين ليوافقنى علي ذلك فأحضر الرجل الذي سعي به الي المنصور فقال له المنصور أحقا ما حكيت لي عن جعفر، فقال نعم يا امير المؤمنين، فقال جعفر استحلفه فبادر الرجل وقال والله العظيم الذى لا إله الا هو عالم الغيب والشهادة الواحد الأحد وأخذ الرجل يعدد في صفات الله تعالى، فقال جعفر يا أمير المؤمنين يحلف بما استحلفه، فقال حلفه بما تختار، فقال جعفر قل برئت من حول الله وقوته والتجأت الي حولي وقوتي لقد فعل جعفر كذا وكذا، فامتنع الرجل فنظر اليه المنصور نظرة منكرة فحلف بها فما كان بأسرع من أن ضرب برجله الأرض وخر ميتا مكانه فقال المنصور جروا برجله واخرجوه ثم قال لا عليك يا ابا عبدالله أنت البرئ الساحة والسليم الناحية المأمون الفائلة علي بالطيب فأتي بالغالية فجعل يغلف بها لحيته إلى أن تركها تقطر وقال في حفظ الله وكلاءته والحقه ياربيع بجوائز حسنة وكسوة سنية .
          قال الربيع فلحقته بذلك ثم قلت له يا ابا عبدالله رأيتك تحرك شفتيك وكلما حركتها سكن غضب المنصور بأى شئ كنت تحركها قال بدعاء جدي الحسين قلت وما هو ياسيدي قال: ( اللهم ياعدتي عن شدتي وياغوثي عند كربتي احرسني بعينك التي لا تنام واكنفني بركتك الذي لا يرام وأرحمني بقدرتك علي فلا أهلك وأنت رجائي اللهم أنك أكبر وأجل وأقدر مما أخاف وأحذر اللهم بك أدرأ في نحره وأستعيذ من شره أنك علي كل شئ قدير) .
      قال الربيع فلما نزل بي من شدة ودعوت به الا فرج الله عني،  وقلت له منعت الساعى بك إلى المنصور من أن يحلف بيمينه وأحلفته بيمينك فما كان إلا أن أخذ لوقته ما السر فيه، قال: لأن في يمينه توحيد الله وتمجيده وتنزيهه فقلت يحلم عليه ويؤخر عنه العقوبة وأحببت تعجيلها إليه فاستحلفته بما سمعت فأخذه الله لوقته .
(الثانية) لما بلغ جعفر الصادق رضي الله عنه قول الحكم عباس الكلبى :
صلبنا لكم زيدا علي جذع نخلة
ولم أر مهز يا علي الجذع يصلب
رفع يديه إلى السماء وقال اللهم سلط عليه كلباً من كلابك فبعثه بنو أميه إلى الكوفة فافترسه الأسد في الطريق فبلغ جعفراً فخر ساجداً لله تعالى وقال الحمد لله الذى أنجزنا ما وعدنا .
(الثالثة) عن ابراهيم بن عبدالحميد قال أشتريت بردة من مكة وآليت على نفسي أن لا تخرج من ملكي حتي تكون كفني فخرجت بها إلى عرفه فوقفت فيها الموقف ثم أنصرفت إلى مزدلفة فبعد أن صليت فيها المغرب والعشاء رفعتها وطويتها ووضعتها تحت رأسي ونمت فلما أنتبهت لم أجدها فأغتمت لذلك غماً شديداً فلما أصبحت صليت وأفضت مع الناس إلى مني فوالله أني لفى مسجد الخيف إذ أتانى رسول أبي عبدالله جعفر الصادق يقول لى يقول أبوعبدالله تأتينا في هذه الساعة فقمت مسرعاً حتي دخلت عليه وهو في فسفاط فسلمت وجلست فالتفت اليّ وقال يا ابراهيم تحب أن نعطيك بردة تكون لك كفناً قلت والله لقد كان معي بردة معدها لذلك ولقد ضاعت مني بمزدلفة فأمر غلامه فأتي ببردة فناولنيها فإذا هي ببردتى بعينها فقلت بردتي ياسيدى فقال خذها فقد جمعها الله لك يا ابراهيم.
فوائد:(الاولي) قال جعفر الصادق صاحب الترجمة لما رفعت إلى ابن جعفر المنصور بعد قتل محمد بن عبدالله بن الحسن نهرنى وكلمنى بكلام غليظ ثم قال ياجعفر قد علمت بفعل محمد بن عبدالله الذى تسمونه النفس الذكية ومانزل به وإنما انتظر الآن ان يتحرك منكم أحد فالحق الصغير بالكبير قال قلت يا أمير المؤمنين حدثني محمد بن علي عن أبيه الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال ان الرجل ليصل رحمه وقد بقى من عمره ثلاث سنين فيصله الله إلى ثلاث وثلاثين سنة قال فقال الله (أي بالله) سمعت هذا من أبيك فقلت والله لقد سمعتها منه فرددها علي ثلاثا ثم قال انصرف .
(الثانية) روي عن جعفر الصادق أنه قال لغلامه نافذ يانافذ إذا كتبت كتاباً في حاجه وأردت أن تنجح حاجتك التي تريد فأكتب في رأس الورقة بسم الله الرحمن الرحيم وعد الله الصابرين المخرج مما يكرهون والرزق من حيث لا يحتسبون جعلنا الله وإياكم من الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون قال نافذ فكنت افعل فتنجح حوائجي .
(الثالثة ) قال جعفر الصادق رضي الله عنه للصداقة خمس شروط فمن كانت فيه فانسبوه إليها ومن لم تكن فيه فلا تنسبوه إلى شئ منها وهى : أن يكون زين صديقه زينه وسريرته له كالعلانيه وان لا يغيره عليه مال وان يراه أهلا لجميع مودته .
ومن كلامه أيضا رضي الله عنه :
- لا يتم المعروف إلا بثلاث تعجيله وتصغيره وستره .
-  ما كل من رأى شيئًا قدر عليه ولا كل من قدر على شىء وفق له ولا كل من وفق أصاب له موضعًا فإذا اجتمعت النية والمقدرة والتوفيق والإصابة فهناك السعادة.
- تأخير التوبة اغترار وطول التسويف حيرة والاعتلال على الله هلكة والإصرار على الذنب من مكر الله ولا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون.
- أربعة اشياء القليل منها كثير النار والعداوة والفقر والمرض
- سئل لم سمي البيت العتيق؟ قال لأن الله تعالي عتقه من الطوفان.
- صحية عشرين يوماً قرابة.
- كفارة عمل الشيطان الاحسان الي الاخوان.
 - إذا دخلت منزل أخيك فأقبل الكرامة ماخلا الجلوس في الصدور ،
- البنات حسنات والبنون نعم والحسنات يثاب عليها والنعم مسئول عنها
- من لم يستح من العيب ويرعو عند الشيب ويخشي الله بظهر الغيب فلا خير فيه ،
- إياكم وملاحاة الشعراء فإنهم يضنون بالمدح ويجودون بالهجاء،
- اللهم إنك بما أنت له أهل من العفو أولي بدا أناله أهل من العقوبة،
- من أكرمك فاكرمه ومن أستخف بك فأكرم نفسك عنه.
- منع الجود سوء بالمعبود .
- دعا الله الناس بالدنيا بآبائهم ليتعارفوا ودعاهم في الآخرة بأعمالهم ليجازوا فقال (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا آَمِنُوا)، [10](يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا)[11].
- إن عيال المرء أسراؤه فمن أنعم الله عليه نعمة فليوسع علي أسرائه فان لم يفعل يوشك أن تزول تلك النعمة عنه
- ثلاثة لا يزيد الله بها الرجل المسلم الا عزا الصفح عمن ظلمه والاعطاء لمن حرمه والصلة لمن قطعه.
- المؤمن إذا غضب لم يخرجه غضبه عن حق وإذا رضي لم يدخله رضاه في باطل          وقد تعلم مما تقدم أن آل البيت هم سفن النجاة وان مناقبهم لا تحصي فقد سبقت لهم الحسني، قال تعالي: ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)[12].
(ج) أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه :
هو الخليفة الراشد والإمام العالم أبوحفص عمر بن العزيز رضي الله تعالى عنه بويع له بالخلافة يوم مات سليمان بن عبد الملك بعهد له منه بذلك وكان يقال له أشج بني أمة وأمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالي عنهما فعمر رضي الله تعالي عنه جده من قبل أمه وهو تابعي جليل روي عن أنس بن مالك والسائب بن يزيد رضي الله تعالي عنهما وروي عنه جماعة ومولده رضي الله تعالي عنه بمصر سنة إحدي وستين، قال الامام أحمد ليس أحد من التابعين قوله حجه إلا عمر بن عبدالعزيز وفي طبقات ابن سعد عن عمر بن قيس أنه قال لما ولي عمر بن عبدالعزيز الخلافة سمع صوت لا يدري قائله :
من الآن قد طابت وقر قرارها
علي عمر المهدي قام عمودها
          وكان عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالي عنه عفيفاً زاهداً ناسكاً عابداً مؤمناً تقياً صادقاً وهو أول من أتخذ دار الضيافة من الخلفاء وأول من فرض لأبناء السبيل وأزال ما كانت بنو أمية تذكر به عليا علي المنابر وجعل مكان ذلك قوله تعالي (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ)[13] ، وقد قال فيه كثير عزه :

وَلَيْتَ وَلَمْ تَسْبُبْ عَلِيّاً وَلَمْ تُخِفْ
                              بَرِيَّاً وَلَمْ تَقْبَلْ مَقَالَةَ مُجْرِمِ
وَصَدَّقْتَ بِالقَوْلِ الفِعَالَ مَعَ الذِيْ
                           أَتَيْتَ فَأمْسَىَ رَاضِيَاً كُلَّ مُسْلِمِ
فَمَا بَيْنَ شَرْقِ الأَرْضِ وَالغَرْبِ كُلِّهَا
                           مُنَادٍ يُنَادِيْ مِنْ فَصِيْحٍ وَأَعْجَمِِ
يَقُوْلُ أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ ظَلَمْتَنِيْ
                             بِأَخْذِكَ دِيْنَارِيْ وَلَا أَخْذِ دِرْهَمِ
فَأَرْبِحْ بِهَا مِنْ صَفْقَةٍ لِمُبَايِعٍ
                                وَأَكْرِمْ بِهَا مِنْ بَيْعَةٍ ثُمَّ أَكْرِمِ

ومن محاسنه التى تحصي قد كتب الى عماله: (أن لا يقيدوا مسجونا بقيد فإنه يمنع الصلاة) وكتب الى عماله بالبصرة عدي ابن أرطاة: (عليك باربع ليال من السنة فان الله تبارك وتعالي يفرغ فيها الرحمة إفراغا وهي أول ليلة من رجب وليلة النصف من شعبان وليلتا العيدين) وكتب الى عماله: (أن دعتكم قدرتكم علي الناس الى ظلمهم فاذكروا قدرة الله تعالى عليكم ونفاذ ما تأتون إليه وبقاء ما يأتي اليكم من العذاب بسببهم). وذكر اناس عن محمد المروذى قال سمعت أن عمر بن عبدالعزيز رضى الله تعالى عنه لما دفن سليمان بن عبدالملك وخرج من قبره سمع الارض هزة أو رجة فقال ما هذه فقيل من مراكب الخلافة قربت اليك يا أمير المؤمنين لتركبها فقال ما لي ولها نحوها عنى وقربوا الي دابتى فقربت إليه فركبها فجاء صاحب الشرطة ليسير بين يديه بالحربة جريا علي عادة الخلفاء قبله وقال تنحى عني ما لى ولك أنما أنا رجل من المسلمين ثم سار مختلطا بين الناس حتي دخل المسجد فصعد المنبر فاجتمع الناس إليه فحمد الله وأثنى عليه علي رسول الله صلي الله عليه وسلم ثم قال: (أيها الناس أني أبتليت بهذا الامر من غير راي مني فيه ولا طلبه ولا مشورة من المسلمين وأني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتي فاختاروا لأنفسكم غيري)، فصاح المسلمون صيحة واحدة قد أخترناك يا أمير المؤمنين ورضيناك أميرنا باليمين والبركة فلما سكتوا حمد الله تعالي وأثني عليه وصلي علي النبي صلي الله عليه وسلم ثم قال: (أوصيتكم بتقوي الله فان تقوي الله تعالي خلف من كل شئ وليس من تقوي الله خلف واعلموا لآخرتكم فانه من عمل لآخرته كفاه الله أمر دنياه وآخرته وأصلحوا سرائركم يصلح الله علانيتكم وأكثروا من ذكر الموت وأحسنوا له الاستعداد قبل أن ينزل بكم فإنه فإنه هادم اللذات وأنني والله لا أعطي أحدا باطلا ولا أمنع أحداً حقا يا أيها الناس من أطاع الله وجبت طاعته ومن عصي الله فلا طاعة له أطيعوني ما أطعت الله فان عصيته فلا طاعة لي عليكم)، ثم نزل ودخل دار الخلافة فأمر بالستور فهتكت أي أزيلت وبالبسط فرفعت وأمر ببيع ذلك وادخال أثمانه في بيت مال المسلمين ثم ذهب يتبوأ مقيلا فأتاه ابنه عبدالملك فقال ما تريد أن تصنع يا أبت قال أى بني أني أريد أن أقيل فقال أبنه عبد الملك تقيل ولا ترد المظالم قال أى بني أنى قد سهرت البارحة في أمر عمك سليمان فاذا صليت الظهر رددت المظالم فقال أبنه يا أمير المؤمنين من أين لك أن تعيش الى الظهر فقال أدن مني يابنى  فدنا منه فقبله بين عينيه وقال الحمد لله الذي أخرج من ظهرى من يعيننى علي ديني فخرج لرد المظالم فردها .
          وروي أنه وقع في زمانه غلاء عظيم فقدم عليه وفد من العرب فاختاروا رجلا منه الخطابه فتقدم إليه وقال: (يا أمير المؤمنين أنا وفدنا إليك من ضرورة عظيمة وراحتنا في بيت المال وماله لا يخلو أما تكون لله أو لعباده أو لك، فإن كان لله فالله غني عنه وإن كان لعباده فآتهم أياه وإن كان لك فتصدق به علينا إن الله يجزى المتصدقين)، فتغرغرت عيناه رضى الله عنه بالدموع وقال هو كما ذكرت وأمر بحوائجهم فقضيت فهم الاعرابى بالإنصراف فقال عمر أيها الرجل كما أوصلت حوائج عباد الله إلى فاوصل حاجتى وأرفع فاقتى إلى الله فقال الإعرابى إلهي اصنع بعمر بن عبدالعزيز كصنيعه في عبادك فما استتم كلامه حتي أرتفع غيم عظيم وأمطرت السماء مطراً كثيراً فجاء في المطر بردة كبيرة فوقعت علي جرة فانكسرت فخرج منها كاغد مكتوب فيه: (هذه براءة من الله العزيز الجبار لعمر بن عبدالعزيز من النار) .
          قال رجاء بن حيوة[14] كان عمر بن عبدالعزيز رضي الله تعالى عنه من أعظم الناس وأكيس الناس وأجملهم في مشيته ولبسه فلما تولى أمر المؤمنين قومت ثيابه وعمامته وقميصه وقباؤه وخفاه ورداؤه فاذا هن يعدلن أثنى عشر درهما وذكر بن عساكر وغيره ان عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه كان قد شدد علي اقاربه وانتزع كثيراً مما في أيديهم فتبرموا به وسموه ويروى أنه دعا بخادمه الذي سمه فقال له ويحك ما حملك علي أن تسقينى السم قال ألف دينار أعطيتها قال هاتها فجاء بها فأمر بطرحها في بيت مال المسلمين وقال لخادمة أخرج بحيث لا يراك أحد، وعن فاطمة بنت عبد الملك زوج عمر بن عبد العزيز رضى الله تعالي عنه أنها قالت والله ما أغتسل عمر من حلم ولا من جنابة منذ ولى هذا الأمر وكان يقضى نهاره في أشغال الناس ورد المظالم وليله في عباده ربه ، قال مسلمة بن عبدالعزيز رضى الله عنه أعوده في مرضه الذى مات فيه فاذا عليه قميص وسخ فقلت لفاطمة بنت عبدالملك يا فاطمة أغسلى قميص أمير المؤمنين فقالت نفعل إن شاء الله تعالى ثم عدت فاذا القميص علي حاله فقلت يافاطمة آمرك أن تغسلى قميص أمير المؤمنين فان الناس يعودونه فقالت والله ما عنده قميص غيره وكان عمر رضي الله تعالي عنه كثيرا ما يتمثل بهذه الابيات :

نَهَارُكَ يَا مَغْرُورُ سَهْوٌ وَغَفْلَةٌ...وَلَيْلُكَ نَوْمٌ وَالرَّدَى لَكَ لازِمُ
وَتُنْصَبُ فِيمَا سَوْفَ تَكْرَهُ غِبَّهُ... كَذَلِكَ فِي الدُّنْيَا تَعِيشُ الْبَهَائِمُ

   واعلم ان مناقب عمر بن عبد العزيز  رضى الله تعالى عنه كثيرة جدا فمن أراد معرفة ذلك فعليه بسيرة العمرين والحلية وغيرهما، وكان مرضه رضى الله تعالى عنه بدير سمعان من أرض حمص ولما أحتضر قال أجلسونى فاجلسوه فقال الهى أنا الذي أسرتني فقصرت ونهيتني فعصيت ولكن لا اله إلا الله ، وتوفي رضي الله تعالى عنه لخمس وقيل لست مضين وقيل لعشر بقين من رجب الفرد سنة أحدى ومائة وهو ابن تسع وثلاثين سنة وأشهر وقيل وهو أبن أربعين سنة وكان رضى الله تعالى عنه أيضا مليحا جميلا مهاباً نحيف الجسم حسن اللحية بجبهته شجة من حافر فرس ضربه وهو صغير وكان اليه المنتهى في العلم والفضل والشرف والورع والتألف ونشر العدل وجدد الله تعالى للامة دينها وسار فيها بسيرة جده لأمه عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه وكانت دولته في طول مدة أبى بكر الصديق رضى الله تعالى عنهم أجمعين .
          ذكر الحافظ بن عساكر أنه لما وضع في قبره بدير سمعان هبت ريح شديدة فسقطت منها صحيفة مكتوبة بأحسن خط (بسم الله الرحمن الرحيم براءة من الله العزيز الجبار لعمر بن عبدالعزيز من النار)، فأخذوها ووضعوها في أكفانه وكانت خلافته رضى الله تعالى عنه سنتين وخمسة أشهر .
          وقبره رضى الله تعالى عنه بدير سمعان ظاهر يزار قال الشافعي رضي الله تعالي عنه الخلفاء الراشدون خمسة أبوبكر وعمر وعثمان وعلي وعمر بن عبدالعزيز رضي الله عنهم أجمعين .
(د) الامام أحمد بن حنبل :
      نسبه هو أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن سعد بن أدريس بن عبدالله بن حيان بن عبدالله بن أنس بن عوف بن اسط بن مازن بن شيبان بن ذهل بن ثعلبه بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن قاسط بن هنب بن أقص بن دعمي بن جديله بن أسد بن ربيعه بن نزار بن معد بن عدنان الشيبتالي المروزي الاصل، هذا هو الصحيح في نسبه وقيل أنه من بني مازن بن ذهل بن شيبان بن ثعلبة بن عكاية وهو غلط لأنه من بني شيبان بن ذهل لا من بني ذهل بن شيبان وذهل بن ثعلبة المذكور هو عم ذهل بن شيبان فأعلم ذلك والله أعلم .
          خرجت أمه من مرو وهي حامل به فولدته في بغداد في شهر ربيع الاول سنة اربع وستين وماية وقيل أنه ولد بمرو وحمل الي بغداد وهو رضيع، وكان امام المحدثين صنف كتابه المسند وجمع فيه من الحديث ما لم يتفق لغيره وقيل أنه كان يحفظ ألف الف حديث وكان من أصحاب الامام الشافعي رضي الله تعالي عنهما ومن خواصه ولم يزل في صحبته الي أن ارتحل الشافعي الي مصر وقال في حقه خرجت من بغداد وما خلفت بها أتقي ولا أفقه من ابن حنبل، وكان قد دعي الي القول بخلق القرآن ولم يجب فضرب وحبس وهو مصر علي الامتناع وكان ضربه في العشر الاخير من شهر رمضان سنة عشرين ومائتين وكان حسن الوجه ربعة وكان يخضب لحيته بالحناء خضابا خفيفاً وقيل في لحيته شعيرات سود .
أخذ عنه الحديث جماعة من الفضلاء منهم محمد بن اسماعيل البخاري ومسلم بن الحجاج النيسابوري ولم يكن في آخر عصره مثله في العلم والورع .
   كانت وفاته ضحوة نهار الجمعة لأثني عشر خلت من شهر ربيع الاول وقيل بل لثلاث عشر ليلة بقين من الشهر المذكور وقيل من ربيع الآخر سنة احدي وأربعين ومائتين ببغداد ودفن بمقبرة باب حرب المنسوب الي حرب بن عبدالله أحد أصحاب أبي جعفر المنصور وقبره مشهور يزار .
          ومن كراماته رضي الله عنه أنه قيل من حضر جازته من الرجال ثمانية الف ومن النساء ستين الف وقيل أنه أسلم يوم وفاته عشرون ألفا من النصاري واليهود والمجوس وذكر ابو الفرج بن الجوزي في كتابه الذي صنفه في أخبار بشر بن الحرث الحافي رضي الله عنه جاء فيه عن ابراهيم الحربي قال رأيت بن الحرث الحافي في المنام كأنه خارج من باب مسجد الرصافة وفي كمه شئ يتحرك فقلت ما فعل الله بك فقال غفر لي وأكرمني فقلت ما هذا الذي في كمك قام قدم علينا البارحة روح أحمد بن حنبل فنثر عليه الدر والباقوت فهذا مما التقط قلت فما فعل يحيى بن معين وأحمد بن حنبل قال تركتهما وقد زارا رب العالمين ووضعت لهم الموائد وقلت فلم لم تأكل معهما أنت قال قلت أن الطعام كان خاصاً بهما ولكن الله سبحانه وتعالي قد أكرمني بالنظر الي وجهه الكريم .
          رضي الله عن الامام أحمد بن حنبل، فسبحان من تولاه وأكرمه ونفع به عباده في حياته وبعد مماته وبما أن فضل الله علي عباده لا يعد ولا يحصي فان الله سبحانه وتعالي قد اكرمه وأعز به هذا الدين بكرامة لم يسبق لها مثيل .
(ه) سعيد بن المسيب :
          هو أبو محمد سعيد بن المسيب بن حزن بن أبي وهب بن عمران بن مخزوم القرشي المدني أحد الفقهاء السبعة بالمدينة .
          كان سعيداً سيد التابعين من الطراز الاول حيث أنه جمع بيبن الحديث والفقه والزهد والعبادة والورع سمع من سعد بن أبي وقاص ومن الزهري وأبا هريرة رضي الله عنهما قال عبد الله بن عمر لرجل ساله من مسأله أنت ذلك فسله يعني سعيد ثم أرجع الي فأخبرني ففعل ذلك فأخبره فقال ألم أخبركم أنه أحد العلماء وقال أيضا في حقه لأصحابه لو رأي هذا رسول الله صلي الله عليه وسلم لسره وكان سعيداً قد اجتمع بجماعة من الصحابة رضي الله عنهم ودخل علي أزواج النبي صلي الله عليه وسلم وأخذ عنهن وأكثر روايته المسند عن أبي هريرة رضي الله عنه وكان زوج أبتنه وسئل الزهري ومكحول من أفقه من أدركتما فقالا سعيد بن المسيب روي عنه أنه قال حججت أربعين وعنه أنه قال ما فاتني التكبيرة الاولي منذ خمسين سنة وما نظرت الي قفا رجل في الصلاة منذ خمسين سنة أيضا لمحافظته علي الصف الاول وقيل أنه صلي الصبح بوضوء العشاء خمسين سنة وكان يقول ما أغرت العباد نفسها بمثل طاعة الله ولا أهانت نفسها بمثل معصيته .
          وكان قد دعي الي نيف وثلاثين الفا من الدراهم ليأخذها وقال لا حاجة لي فيها ولا في بني مروان حتي ألقي الله فيحكم بيني وبينهم وقال صهره أبو وداعه كنت أجالس سعيد بن المسيب ففقدني أياما فلما جئته قال أين كنت قلت توفيت زوجتي فاشتغلت بها فقال هلا أخبرتنا فشهدناها قال ثم أردت أن أقوم فقال هل تزوجت امرأة غيرها فقلت يرحمك الله فمن يزوجني وما أملك الا درهمين أو ثلاثة فقال أن أنا قبلت أن ازوجك تقبل قلت نعم ثم حمد الله تعالي وصلي علي النبي صلي الله عليه وسلم وزوجني علي درهمين أو قال علي ثلاثة، قال أبو وداعه ثم قمت وما أدري ما أصنع من الفرح فصرت الي منزلي وجعلت أتفكر من آخذ وأستدين ثم صليت المغرب وكنت صائماً فقدمت عشاي لأفطر وكان خبزا وزيتاً واذا بالباب يقرع فقلت من هذا قال سعيد ففكرت في كل انسان اسمه سعيد إلا سعيد بن المسيب فانه لم ير يمر بالمدينة منذ أربعين سنة الا ما بين بيته والمسجد فقمت وخرجت فاذا بسعيد بن المسيب فظننت أنه قد بدأ له من أمر مصاهرتي له فقلت يا أبا محمد هلا أرسلت الي فآتيك قال لا أنت أحق أن تؤتي قلت فما تأمرني قال رأيتك رجلاً عزبا وقد تزوجت من أبنتي فكرهت أن تبيت الليلة وحدك وهذه أمرأتك فاذا هي قائمة خلفه في طوله ثم دفعها الي الباب ورد الباب فسقطت المرأة من الحياء فأوثقت الباب ثم صعدت الي السطح فناديت الجيران فجاءوني وقالوا ما شأنك فقلت زوجني سعيد بن المسيب اليوم إبنته وقد جاء بها علي غفلة وها هي بالدار فنزلوا اليها وبلغ خبرها أمي فجاءت وقالت لي وجهي من وجهك حرام أن مسسها قبل أن أصلحها ثلاثة أيام فأقمت ثلاثة أيام ثم دخلت بها فاذا هي من أجمل النساء وأحفظهم لكتاب الله تعالي وأعلمهم بسنة رسول الله صلي الله عليه وسلم وأعرفهم بحق الزوج قال فمكثت شهرا لا يأتيني ولا أتيته ثم رجعت اليه بعد ذلك وهو في حلقته فسلمت عليه فرد علي ولم يكلمني حتي أنصرف كل من بالمسجد فلما لم يبق غيري قال ما حال ذلك الانسان قلت هو علي ما يحب الصديق ويكره العدو ثم قال لي أن رأيك في شئ منه فعليك بالعطا فانصرفت الي منزلي .
          وكانت بنت سعيد المذكورة خطبها عبد الملك بن مروان لابنه الوليد حين ولاه العهد فأبي سعيد أن يزوجه فلم يزل عبد الملك يحتال علي سعيد حتي ضربه في يوم بارد وصب عليه الماء، قال يحيى ابن سعيد كتب هشام بن اسماعيل والي المدينة الي عبد الملك بن مروان (أن أهل المدينة قد أطيقوا البيعة للوليد وسليمان الا سعيد بن المسيب)، فقال أن أمير المؤمنين يأمرنا أن لم تبائع ضربنا عنقك فقال له سعيد أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قد نهي عن بيعتين فلما رآه لم يستجب أخرج الي السده فمدت عنقه وسلت السيوف فلما رآه قد تجرد من ثيابه رأي عليه قميص شعر تحت ثيابه ثم قال سعيد لو علمت ذلك ما أشهترت به ثم ضربه خمسين سوطا وطاف به أسواق المدينة فلما ردوه والناس منصرفون من صلاة العصر قال أن هذه لوجوه ما نظرت اليها منذ اربعين سنة ومنعوا الناس أن يجالسوه وكان من ورعه وحلمه اذا جاء اليه أحد يقول له قم من عندي مخافة الا يعذب بسببه .
          قال مالك رضي الله عنه بلغني أن سعيد بن المسيب كان يلزم مكاناً في المسجد لا يصلي من المسجد في غيره وأنه لما صنع به عبد الملك ماصنع طلب منه أن يترك الصلاة فيه فأبي الا أن يصلي فيه . وكان يقول لأصحابه لا تملئوا أعينكم من أعوان الظلمة الا باحتقار لهم في قلوبكم لكي لا تحبط أعمالكم .
رحم الله سعيدا ورضي عنه رضاءا تاما فقد كان في الحقيقة عالماً عاملا قوى الشكيمة لا يخشي في الحق لومة لائم فقد ابتلاه مولاه بلاءا حسنا في أيمانه فصبر صبرا جميلا .
(و) الامام مالك رضي الله تعالي عنه :
علمه وزهده وأدبه وشجاعته وحلمه وتواضعه[15]: قال شيخ الاسلام النووي روينا بالاسناد الصحيح في جامع الترمذي وغيره عن ابي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: (يُوشِكُ أَنْ يَضْرِبَ النَّاسُ أَكْبَادَ الْإِبِلِ يَطْلُبُونَ الْعِلْمَ فَلَا يَجِدُونَ أَحَدًا أَعْلَمَ مِنْ عَالِمِ الْمَدِينَةِ وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذَا سُئِلَ: مَنْ عَالِمُ الْمَدِينَةِ ؟ فَقَالَ: إِنَّهُ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ)[16]، والحديث المذكور رواه النسائي من حديث عن ابن جريح عن أبي الزبير عن ابي صالح عن أبي هريرة رضي الله تعالي عنهم ان النبي صلي الله عليه وسلم قال: (يَضْرِبُونَ أَكْبَادَ الإِبِلِ وَيَطْلُبُونَ الْعِلْمَ فَلا يَجِدُونَ عَالِمًا أَعْلَمَ مِنْ عَالِمِ الْمَدِينَةِ)[17].
          وفي كتاب التمهيد لابن عبد البر، قال كتب عبد العزيز الجمري العابد الى الامام مالك يحضه علي الانفراد والانقطاع الى الله والعمل ويرغبه فيه عن اجتماع الناس حوله وتحصيل العلم منه، فكتب اليه الامام مالك كتاب فقه جاء فيه ان الله عز وجل قسم الاعمال كما قسم الارزاق فرب رجل فتح له في الصلاة ولم يفتح له في الصوم وآخر فتح له في الصدقة ولم يفتح له في الصيام وآخر فتح له في الجهاد ولم يفتح له في الصلاة، ونشر العلم وتعليمه من أفضل أعمال البر وقد رضيت بما فتح الله لي فيه من ذلك وما أظن أنا فيه بدون ما أنت فيه وأرجو أن يكون كلانا علي خير وبر ويجب علي كل منا أن يرضي بما قسم الله له والسلام .
          وفي كتاب الاحياء في الباب السادس من أبواب العلم يحكي أن يحيى بن يزيد النوفلي كتب الي مالك بن أنس كتاباً جاء فيه: " بسم الله الرحمن الرحيم وصلي الله علي سيدنا محمد في الاولين والآخرين من يحيى بن يزيد الي مالك بن انس أما بعد فقد بلغني أنك تلبس الرقاق وتأكل الرقاق وتجلس علي الوطاء وتجعل علي بابك حجابا وقد جلست مجلس العلم وضربت اليك أبط المطي فارتحل الناس اليك فاتخذوك اماماً ورضوا بقولك فاتق الله يا مالك وعليك بالتواضع كتبت اليك بالنصيحة في كتاب ما اطلع عليه الا الله والسلام " فرد عليه مالك بن أنس " بسم الله الرحمن الرحيم من مالك بن أنس الي يحيى بن يزيد سلام عليك أما بعد فقد وصل الي كتابك فوقع مني موقع النصيحة من المشفق، أمتعك الله بالتقوي وجزاك وحولك بالنصيحة خيرا وأسأل الله التوفيق ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم، واما ما ذكرت من أني آكل الرقاق وألبس الرقاق وأجلس علي الوطاء فنحن نفعل ذلك ونستغفر الله تعالي وقد قال سبحانه وتعالي: قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق وأني لا أعلم ان ترك ذلك خير من الدخول فيه فلا تدعنا من كتابك فانا ليس ندعك من كتابنا والسلام".
          وفي كتاب الاحياء أيضا روي أن هارون الرشيد أعطي مالك ثلاثة آلاف دينار فأخذها ولم يصرفها فلما أراد الرشيد السفر الي العراق قال لمالك ينبغي أن تخرج معنا فاني عزمت أن أحمل علي الموطأ كما حمل عثمان رضي الله عنه الناس علي القرآن، فقال له مالك أما حمل الناس علي الموطأ فليس الي ذلك سبيل فان أصحاب محمد صلي الله عليه وسلم أفترقوا بعده في الامصار فحدثوا فعند أهل كل مصر علم وقد قال صلي الله عليه وسلم اختلاف أمتي رحمة أما الخروج معك فلا سبيل اليه فقد قال صلي الله عليه وسلم المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون وقال صلي الله عليه وسلم تنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد وهذه دنانيركم كما هي أن شئتم فخدوها وان شئتم فدعوها يعني بذلك أنما تكلفني الخروج معك ومفارقة مدينة الرسول بما أصطنعته لدي فلا اوثر الدنيا علي مدينة الرسول صلي الله عليه وسلم وهذا أكبر دليل علي زهده في الدنيا ومحبته للآخرة .
          قال الشافعي رحمه الله ورضي عنه شهدت مالكاً رضي الله عنه قد سئل عن ثمان وأربعين مسئلة فقال في أثنين وثلاثين منها لا أدري وهذا يدل علي أنه يريد بعلمه وجه الله تعالي فان كان يريد غير وجه الله بعلمه كانت لا تسمح له نفسه بأن يقر علي نفسه بأنه لا يدري ولذلك قال الشافعي رضي الله عنه أذا ذكر العلماء مالك البحر ولا يوجد احد آمن علي من مالك .
وقيل أن أبا جعفر المنصور منعه من رواية الحديث في طلاق المكره ثم دس عليه من سأله فروي عن ملأ من الناس ليس علي مكره طلاق فضربه المنصور بالسياط، فانظر كيف أختار ضرب السياط ولم يترك رواية الحديث .
   وفي كتاب الحلية أن الشافعي رضي الله عنه قال قالت لي عمتي يوماً ونحن بمكة رأيت في هذه الليلة عجباً فقلت لها وما هو قالت رأيت كأن قائلا يقول لي مات الليلة أعلم اهل الأرض قال الشافعي فحسبنا ذلك فاذا هي الليلة التي مات فيها مالك بن أنس رضي الله عنه، ومن كلمات مالك المأثورة كان يقول: (إذا لم يكن للإنسان في نفسه خير لم يكن للناس فيه خير).
          وفي كتاب الحلية أيضا قال مالك ما بت ليلة إلا رأيت فيها رسول الله صلي الله عليه وسلم (فيالها من كرامة ويالها من سعادة).
          وكان مالكاً رضي الله تعالي عنه كما ذكره كثيرون من المؤرخين اماماً عالماً وعاملاً وزاهداً ورعاً عارفا بلله تعالي وكان أيضاً مبالغاً في تعظيم علم الدين لا سيما حديث رسول الله صلي الله عليه وسلم فانه كان اذا أراد أن يذاكر الناس في الحديث توضأ وجلس علي فراشه وسرح لحيته وتطيب وتمكن في الجلوس علي وقار وهيبة ثم حدث فقيل له لم تفعل ذلك فقال أني احب أن أعظم حديث رسول الله عليه وسلم. وكان يقول (الْعِلْمُ نُورٌ يَجْعَلُهُ اللَّهُ حَيْثُ يَشَاءُ ، لَيْسَ بِكَثْرَةِ الرِّوَايَةِ)[18]. توفي رضي الله عنه سنة تسع وسبعين وماية وهو من التابعين .
(ز) البخاري رضي الله عنه أمام علم الحديث :
         هو أبو عبدالله محمد بن أبي الحسن اسماعيل بن ابراهيم بن المقبرة بن الاحنف الجعفي البخاري .
     رحل في طلب الحديث الي كثير من محدثي الامصار وكتب بخرسان والجبال مدن العراق والحجاز والشام ومصر ثم قدم بغداد واجتمع اليه اهلها وأعترفوا بفضله وشهدوا بتفرده في علم الرواية والدراية وحكي أبو عبد الله الحميدي في كتاب جذوة المقتبس والخطيب في تاريخ بغداد أن البخاري لما قدم بغداد سمع به أصحاب الحديث فاجتمعوا وعمدوا الي ماية حديث وقبلوا متونها واسانيدها وجعلوا متن هذا الاسناد لاسناد آخر ودفعوا بها الي عشرة أشخاص وأمروهم اذا حضروا المجلس أن يلقوا ذلك علي البخاري كي يختبروه بها ولما جاء الموعد حضر المجلس جماعة من أصحاب الحديث من الغرباء من أهل خراسان وغيرها من البغداديين فلما كمل المجلس بأهله أنتدب اليه واحد من العشرة فسأله عن حديث من تلك الاحاديث فقال البخاري لا اعرفه فسأله عن آخر فقال لا أعرفه فما زال يلقي عليه واحد بعد واحد حتي فرغ من عشرته والبخاري يقول لا أعرفه فكان الفقهاء ممن حضر المجلس يلتفت بعضهم الي بعض ويقولون قد فهم الرجل ومنهم من كان يري ضد ذلك وأتهم البخاري بالعجز والتقصير وقلة الفهم ثم أنتدب رجل آخر من العشرة فسأله عن حديث من تلك الأحاديث المقلوبة فقال البخاري لا أعرفه فسأله عن الآخر فقال لا أعرفه فلم يزل يلقي عليه واحدا بعد واحد حتي فرغ من عشرته والبخاري يقول لا أعرفه ثم أنتدب الثالث والرابع الي تمام العشرة حتي فرغوا كلهم من الاحاديث المقلوبة والبخاري لا يزيدهم علي قوله لا أعرفه  فلما علم البخاري أنهم فرغوا التفت الي الاول منهم فقال أما حديثك الأول فهو كذا وحديثك الثاني فهو كذا والثالث والرابع علي الولاء حتي أتي علي تمام العشرة فرد كل متن السند اسناده وكل اسناد الي متنه وفعل بالآخرين، كذلك ورد كل متون الاحاديث الي أسانيدها وأسانيدها الي متنوها فأقر له الناس بالحفظ وأذعنوا له بالفضل، وكان بن ساعد اذا ذكر البخاري يصفه بالكبش النطاح ونقل عنه محمد بن يوسف الفريري انه قال ما وضعت في كتابي الصحيح حديثاً إلا أغتسلت قبل ذلك وصليت ركعتين وعنه أنه قال صنفت كتابي الصحيح في مدة ستة عشر سنة وأخرجته من ستماية الف حديث وجعلته حجة فيما بيني وبين الله وقال الفريري سمع صحيح البخاري تسعون الف رجل فما بقي أحد يروي عنه غيره وروي عنه أبو عيسى الترمذي .
          كانت ولادته رضي الله عنه يوم الجمعة بعد الصلاة لثلاث عشر ليلة خلت من شوال سنة أربع وستين وماية وقال أبو يعلي الخليلي في كتاب الارشاد أن ولادته كانت لاثني عشر ليلة خلت من الشهر المذكور، وتوفي ليلة السبت بعد صلاة العشاء وكانت تلك الليلة ليلة عيد الفطر ودفن يوم الفطر بعد صلاة الظهر سنة ست وخمسين ومائتين بخبرتنك رحمه الله تعالي وذكر بن يونس في تاريخ الغرباء أنه قدم مصر وتوفي بها فهو غلط والصواب ما ذكرناه آنفا . كان خالد بن احمد بن خالد الذهلي قد أخرجه من بخاراء الي خرتنك ثم حج خالد المذكور فوصل الي بغداد فحبسه الموفق بن المتوكل أخو المعتمد الخليفة فمات في حبسه وكان البخاري نحيف الجسم لا بالطويل ولا بالقصير رضي الله عنه)[19].
(ح) عبدالله بن المبارك رضي الله عنه :
هو أبو عبدالرحمن عبد الله بن المبارك بن واضح المرزوي مولي بن حنظلة . جمع بين العلم والزهد وتفقه علي سفيان الثوري ومالك بن أنس رضي الله عنهما وروي عنه الموطأ وكان كثير الانقطاع محبا للخلوة شديد التتورع، يقول عنه ابن خلّكان في وفيات الأعيان: كان قد جمع بين العلم والزهد، وكان كثير الانقطاع، محباً للخلوة، وكان شديد التورع، وكذا كان أبوه، وأورد عن أبيه حكاية، أنه كان يعمل في بستان لمولاه، وأقام فيه زماناً، ثم إن مولاه جاءه يوماً، وقال له: أريد رمّاناً حُلْوًا؟ فمضى إلى بعض الشجر وأحضر منها رماناً فكسره فوجده حامضاً، فغضب عليه، وقال له: أطلب الحلو فتحضر بالحامض، هات حلوًا؟ فمضى وقطف من شجرة أخرى فأعطاه، فلما كسره وجده حامضاً أيضاً، فاشتد غضبه عليه، فقال: لا، وفعل كذلك دفعة ثالثة، فقال له مولاه فيما بعد: أما إنك أنت ما تعرف الحُلو من الحامض، أو لم تأكل؟ فقال: لا، فقال له: وكيف ذلك؟ فقال: لأنك ما أذِنْتَ لي وما أكلت من البستان شيئًا، فكشف عن ذلك فوجد قوله حقاً، فعظم في عينه، وزوّجه ابنته، ويقال: إن عبد الله هذا رزقه الله من تلك الابنة، وكان من بركة وصلاح أبيه.
قال بن خلكان رأيت في بعض الكتب هذه القصة منسوبة الي ابراهيم بن أدهم العبد الصالح رضي الله عنه وكذا ذكرها الطرطوشي في كتاب سراج الملوك لأبن أدهم المذكور ونقل أبو علي الغساني الجياني أن عبد الله بن المبارك سئل أيما أفضل معاوية بن أبي سفيان أم عمر بن عبددالعزيز فقال والله الغبار الذي دخل في أنف معاوية مع رسول الله صلي الله عليه وسلم أفضل من عمر بألف مرة لأن معاوية صلي خلف رسول الله صلي الله عليه وسلم فقال سمع الله لمن حمده فقال معاوية ربنا ولك الحمد فما بعد هذا، قال بن خلكان رأيت في كتاب أهل الخصوص عن اشعث بن شمعة المصيصي قال قدم هارون الرشيد الرقة فانحفل الناس خلف عبد الله بن المبارك فهرول الناس وأرتفع الغبار فاشرفت أم ولد أمير المؤمنين من برج الخشب فلما رأت الناس قالت ما هذا قالوا عالم أهل خرسان قدم الرقة يقال له عبد الله بن المبارك فقالت هذا والله الملك يا ملك هارون الذي لا يجمع الناس إلا بشروط وأعوان وكان لعبد الله شعر فمن قوله :
قد يفتح المرء حانوتا لمتجره
وقد فتحت لك الحانوت بالدين
بين الاساطين حانوت بلا غلف
تبتاع بالدين وأموال المساكين
صيرت دينك شاهينا تصيد به
وليس يفلح أصحاب الشواهين
          ومن كلامه تعلمنا الدين للدنيا فدلنا علي ترك الدنيا، وكان عبد الله قد غزا فلما أنصرف من الغزو وصل الي مدينة هيت فتوفي بها في رمضان سنة أحدي وقيل اثنتين وثمانين وماية رضي الله عنه ومولده بمرو سنة ثمانية عشر وماية والقصة التالية تدل علي علو قدره عند الله .
    روي بن بشكوال في كتابه المستغيتن بالله عز وجل عن عبد الله بن المبارك أنه قال خرجت الي الجهاد ومعي فرس فبينما أنا في بعض الطريق اذ صرع الفرس فمر بي رجل حسن الوجه طيب الرائحة فقال أتحب أن تركب فرسك قلت نعم فوضع يده علي جبهة الفرس حتي أنتهي الي مؤخرته، وقال: (أقسمت عليك أيتها العلة بعزة الله وبعظمة عظمة الله وبجلال جلال الله وبقدرة قدرة الله وبسلطان الله وبلا إله الا الله وبما جري به القلم من عند الله وبلا حول ولا قوة إلا بالله إلا أنصرفت)، قال فانتفض الفرس فأخذ الرجل بركابي وقال أركب فركبت ولحقت بأصحابي فلما كان من غداة غد وظهرنا علي العدو فاذا هو بين أيدينا فقلت له الست صاحبي بالامس قال بلي فقلت سألتك بالله من أنت فوثب قائما فاهتزت الارض تحته خضراء فاذا هو الخضر عليه السلام، قال بن المبارك رضي الله تعالي عنه فلما قلت هذه الكلمات علي عليل إلا شفي بإذن الله تعالي .
          فأعتبر أيها القارئ الكريم فان الله سبحانه وتعالي قد أكرم عباده الصالحين بكرامات لا تدرك ولا تحصي ولا يكيفها إلا فهم من وفقه الله الي فهمها .
تنبيه : سنذكر نبذة طريفة عن سيدنا الخضر عليه السلام في الفصل الثالث من هذا الكتاب في باب الصدقة .
(ط) أبو القاسم السهيلي:
      أبو القاسم السهيلي[20]، وأبو زيد عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد بن أبي الحسن ـ واسمه أصْبغ بن حسين بن سعدون بن رضوان بن فتوح، وهو الداخل إلى الأندلس)
   قال الحافظ أبو الخطاب ابن دحية هكذا أملي علي نسبه الجثعمي السهيلي الامام المشهور صاحب كتاب الروض الانف في شرح سيرة رسول الله صلي الله عليه وسلم وله كتاب التعريف والاعلام فيما ابهم في القرآن من الأسماء الأعلام وله كتاب نتائج الفكر ومسئلة رؤية الله تعالي في المنام ورؤية النبي صلي الله عليه وسلم ومسئلة السر في عور الدجال ومسائل كثيرة مفيدة قال ابن دحيه انشدني وقال أنه ما سأل الله تعالي بها حاجة إلا أعطاء اياها وكذلك من أستعمل انشادها وهي :
يــا من يرى مـا في الضمـــير ويســمع
أنت المُعـــدّ لكل مــا يُتــــــــــــــوقّــــــع
يا مـن يُـــرجّى للشّــــدائــد كُلّــــــــــــها
يـــا من إلـــــيه المُشــــتكى والمــفــزعُ

يــا من خــــزائن رزقـــــه في قــول كــن
أُمــنن فــإنّ الخــــير عندك أجمــــــــــــعُ
مالي سِــــوى فقري إليــك وســــــــيلــــةً
فبالافتقــــار إليـــك فقــــري أدفــــــــــــــعُ
مالي سِـــــوى قرعـــي لبــابــك حيــــــلـةَ
فــلإن رُدِدتُ فـــأيَّ بــــابٍ أ قـــــــــــــــرعُ
ومــن الــذي أرجــــو فــأهتـــفُ باســــــمِهِ
إن كـــان فضــــلك عـــن فـقــــيرك يُمنـــعُ
حــــاشــــا لِفـضــلك أن تُــقنِّــط عــاصِيــــاً
ألفــضلُ أجــــزلُ والمـــــواهِــبُ أوســــــعُ
بالـــذُّلّ قــــد وافــيت بــــــابك عــــــالمـــــاً
أن التّــــذلُّل عند بـــــابــك ينفـــــــــــــــــــعُ
وجــعلـــــت معتمـــــدي عليــــك تــــــــوكّلا
وبســــطتُ كفّـــــي ســـــائِلا أتـــــــضـــرّغُ
فاجــــعـــل لنــا من كـــلّ ضـــيقٍ مخـــــرجاً
والطُــــف بنــــا يــامن إليـــــه المـــــــــرجِعُ
ثُــــمّ الصّــــلاةُ عــلى النّــــــبيًّ وآلـــــــــــهِ
خــــيرُ الأنـــــــــــــــامِ شــافِعٌ ومُــشــــــفّـــعُ
هذا وان أشعاره كثيرة وتصانيفه ممتعة وكان ببلده يتسوغ لالعفاف ويتبلغ بالكفاف حتي ذاع صيته الي والي مراكش فطلبه اليها وأحسن اليه واقبل بوجهه غاية الاقبال عليه واقام بها نحو ثلاثة أعوام وملده سنة ثمان وخمسماية بمدينة مالقة، وتوفي في عاصمة مراكش يوم الخميس ودفن وقت الظهر في اليوم السادس والعشرين من شهر شعبان سنة أحدي وثمانين وخمسماية رحمه الله تعالي وكان مكفوفاً .
(ى)  الأمام سفيان الثوري:
         أبو عبد الله سفيان بن سعيد بن مسروق بن حبيب بن رافع بن عبدالله بن موهبه بن أبي عبد الله بن منقذ بن نصر بن الحكم أبن الحرث بن ثعلبة بن ملكان بن نور بن عبد مناة بن أد بن طابخة أبن الياس بن مضر بن نزار بن معد عدنان الثوري الكوفي.
   كان أماما في علم الحديث وغيره من العلوم وأجمع الناس علي دينه وورعه وزهده وثقته وهو أحد الائمة المجتهدين ويقال ان الشيخ أبا القاسم الجنيد كان علي مذهبه، قال سفيان بن عينية ما رأيت رجلا أعلم بالحلال والحرام من سفيان الثوري ويقال كان عمر بن الخطاب في زمانه رأس الناس وبعده عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما وبعده الشعبي وبعده سفيان الثوري .
          سمع سفيان الثوري الحديث من ابي اسحاق السبيعي والأعمشي وممن كان في مستواهما وسمع منه الاوزاعي وابن جريح ومحمد بن اسحاق ومالك وتلك الطبقة وذكر المسعودي في مروج الذهب مثل ذلك .
          قال القعقاع بن حكيم كنت عند المهدي وأتي سفيان الثوري فلما دخل عليه سلم تسليم العامة ولم يسلم بالخلافة والربيع قائم علي رأسه متكئا علي سيفه يرقب أمره فاقبل عليه المهدي بوجه طلق وقال له يا سفيان تفر منا ههنا وههنا وتظن أنا لو أردناك بسوء لم نقدر عليك فقد قدرنا عليك الآن أفما تخشى أن نحكم فيك بهوانا قال سفيان لو تحكم في يحكم فيك ملك قادر يفرق بين الحق والباطل فقال له الربيع يا أمير المؤمنين ألهذا الجاهل أن يستقبلك بمثل هذا ائذن لي أن اضرب عنقه فقال له المهدي اسكت ويلك وهل يريد هذا وأمثاله الا أن نقتلهم فنشقي بسعادتهم، أكتبوا عهده علي قضاء الكوفه علي أن لا يتعرض عليه في حكم فكتب عهده ودفع اليه فأخذه وخرج فرمي به في نهر دجلة وهرب فطلب في كل بلد فلم يوجد ولما أنتنع من قضاء الكوفه وتولاه شريك بن عبد الله النخعي قال الشاعر :
تَحَرَّزَ سُفْيَانُ وَفَرَّ بِدِينِهِ ... وَأَمْسَى شَرِيكٌ مُرْصِدًا للدَّرَاهِمِ
          وحكي عن أبي صالح شعيب بن حرب المدائني وكان أحد السادة الائمة الاكابر في الحفظ والدين أنه قال أنني لأحسب بجاء بسفيان الثوري يوم القيامة حجة من الله علي الخلق ويقال لهم لم تدركوا نبيكم عليه افضل الصلاة والسلام فلقد أدركتم سفيان الثوري الا اقتديتم به .
          كان مولده رضي الله عنه في سنة خمس وقيل ست وتسعين للهجرة وتوفي بالبصرة سنة احدي وستين وماية متواريا من السلطان ودفن في العشاء ولم يعقب.
          والقصة التالية تثبت قوة شكيمته وورعه وعزمه وتمسكه بالحق. ذكر الامام بن بليان والغزالي وغيرهما أن الرشيد لما ولي الخلافة زاره العلماء بأسرهم إلا سفيان الثوري فإنه لم يأته وكان بينه مودة فشق عليه ذلك فكتب اليه الرشيد كتاباً يقول فيه : (مِنْ عَبْدِ اللهِ هَارُون أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى أَخِيهِ فِي اللهِ سُفْيَان بن سَعِيدٍ الثَّوْرِيِّ. أَمَّا بَعْدُ يَا أَخِي، فقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ اللهَ آخَى بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ آخَيْتُمْ فِي اللهِ مُؤَاخَاةً لَمْ أَصْرِمْ فِيهَا حَبْلكَ، وَلَمْ أَقْطَعْ مَنْهَا وُدّكَ، وَإِنِّي مُنْطَو لِكَ عَلَى أَفْضَلِ الْمَحَبَّةِ، وَأَتَمِّ الإِرَادَةُ. وَلَوْلا هَذِهِ الْقلادَةِ الَّتِي قَلَدَنِيهَا اللهُ تَعَالَى لأَتَيْتُكَ وَلَوْ حَبْوَا، لِمَا أَجِدُ لَكَ فِي قَلْبِي مِنَ الْمَحَبَّةِ، وَإِنَّهُ لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِنْ إِخْوَانِي إِلا زَارَنِي وَهَنَّأَنِي بِمَا صِرْتُ إِلَيْهِ. وقَدْ فَتَحْتُ بُيُوتَ الأَمْوَالِ، وَأَعْطَيْتُهُمْ مِنَ الْمَوَاهِبِ السَّنِيَّةِ، مَا فَرِحَتْ بِهِ نَفْسِي وَقَرَتْ بِهِِ عَيْنِي وَقَدْ اسْتَبْطَأْتُكَ، وَقَدْ كَتَبْتُ كِتَابًا مِنِّي إِلَيْكَ اعُلِمُكَ بِالشَّوْقِ الشَّدِيدِ إِلَيْكَ. وقَدْ عَلِمْتَ يَا أَبَا عَبْدَ اللهِ مَا جَاءَ فِي فَضْلِ زِيَارَةِ الْمُؤْمِنِ وَمُوَاصَلَتِهِ فَإِذَا وَرَدَ عَلَيْكَ كِتَابِي هَذَا فَالْعَجَلَ الْعَجَلَ)، ثم أعطي الكتاب لعباد الطالقاني وأمره بايصاله إليه، وأن يحصي عليه بسمعه وقلبه دقيق أمره وجليله ليخبره به، قال عباد فانطلقت الي الكوفة فوجدت سفيان في مسجده فلما رآني علي بعد قام وقال أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم وأعوذ بك اللهم من طارق يطرق الا خير، قال عباد فنزلت من فرس بباب المسجد فقام يصلي ولم يكن وقت صلاة فدخلت وسلمت فلما رفع أحد من جلسائه رأسه الي قال عباد فبقيت واقفا وما منهم أحد عرض علي الجلوس وقد علتني من هيبتهم الرعدة فرميت بالكتاب إليه فلما رأى الكتاب أرتعد وتباعد منه كأنه حية عرضت عليه في محرابه فركع وسجد وسلم وأدخل يده في كمه وأخذه وقلبه بيده ورماه الي كان خلفه وقال ليقرأه بعضكم فاني استغفر الله أن أمس شيئا مسه ظالم بيده قال عباد فمد بعضهم يده اليه وهو يرتعد كأنه خائف من حية تنهشه ثم قرأه فجعل سفيان يبتسم تبسم المتعجب فلما فرغ من قراءته قال أقلبوه وأكتبوا للظالم علي ظهره فقيل له يا ابا عبد الله انه خليفة فلو كتبت اليه في بياض نقي لكان احسن فقال أكتبوا للظالم في ظهر كتابه فان كان أكتسبه من حلال فسوف يجزي به وان كان أكتسبه من حرام فسوف يصلي به ولا يبقي شئ مسه ظالم بيده عندنا فيفسد علينا ديننا فقيل له ما نكتب اليه قال أكتبوا له (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنَ الْعَبْدِ الْمَيْتِ سُفْيَانِ إِلَى الْعَبْدِ الْمَغْرُورِ بِالآمَالِ هَارُونِ الَّذِي سُلِبَ حَلاوَةَ الإِيمَانِ، وَلَذَّةَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ. أَمَّا بَعْدُ.. فَإِنِّي كَتَبْتُ إِلَيْكَ اعُلِمُكَ أَنَّي قَدْ صَرِمْتُ حَبْلَكَ، وَقَطَعْتُ وَدَّكَ، وَإِنَّكَ قَدْ جَعَلْتَنِي شَاهِدًا بِإِقْرَارِكَ عَلَى نَفْسِكَ فِي كِتَابِكَ بِمَا هَجَمْتَ عَلَى بَيْتِ الْمُسْلِمِينَ فَأَنْفَقْتَهُ فِي غَيْرِ حَقِّهِ وَأَنْفَذْتُهُ بِغَيْرِ حُكْمِهِ، وَلَمْ تَرْضَ بِمَا فَعَلْتَ وَأَنْتَ نَاءٍ عَنِّي حَتَّى كَتَبْتَ إِلَيَّ تُشْهِدنِي عَلَى نَفْسِكَ. فَأَمَّا أَنَا فَإِنِّي قَدْ شَهِدْتُ عَلَيْكَ أَنَا وَإِخْوَانُكَ الَّذِينَ حَضَور قِرَاءَة كِتَابِكَ وَسَنُؤَدِّي الشَّهَادَةَ غَدًا بَيْنَ يَدَيِّ اللهِ الْحَكَمِ الْعَدْلِ. يَا هَارُونُ هَجَمْتَ عَلَى بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِ رِضَاهُمْ. هَلْ رَضِيَ بِفِعْلِكَ الْمُؤَلَفَةِ قُلُوبُهُمْ، وَالْعَامِلُونَ عَلَيْهَا فِي أَرْضِ اللهِ، وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنَ السَّبِيلِ، أَمْ رَضِيَ بذَلِكَ حَمَلَةُ الْقُرْآنِ وَأَهْلُ الْعِلْمِ يَعْنِي الْعَامِلِينَ، أَمْ رَضِيَ بِفِعْلِكَ الأَيْتَامُ والأرَامِلُ، أَمْ رَضِيَ بِذَلِكَ خَلْقٌ مِنْ رَعِيَّتِكَ.
فَشُدَّ يَا هَارُونُ مِئْزَرَكَ، وَأَعِدّ لِلْمَسْأَلَةِ جَوَابًا وَلِلْبَلاءِ جِلْبَابًا، وَاعْلَمْ أَنَّكَ سَتَقِفُ بِيْنَ يَدَيِّ الْحَكَمِ الْعَدْلِ فَاتَّقِ اللهَ فِِي نَفْسِكَ إِذَ سُلِبْتَ حَلاوَةُ الْعِلْمِ وَالزُّهْدِ وَلَذَّةُ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَمُجَالَسَةِ الأَخْيَارِ، وَرَضِيتُ لِنَفْسِكَ أَنْ تَكُونَ ظَالِمًا وَلِلظَّالِمِينَ إِمَامًا.
يَا هَارُونُ.. قَعِدْتَ عَلَى السَّرِيرِ، وَلَبِسْتَ الْحَرِيرِ، وَأَسْبَلْتَ سُتُورًا دُونَ بَابِكَ، وَتَشَبَّهْتَ بِالْحَجَبَةِ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ثُمَّ أَقْعَدْتَ أَجْنَادَكَ دُونَ بَابِكَ، وَسَتْرك يَظْلِمُونَ النَّاسَ، وَلا يُنْصِفُونَ، وَيَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَيُحِدُّونَ الشَّارِبِ، وَيَزْنُونَ وَيُحِدُّونَ الزَّانِيَ، وَيَسْرَقُونَ السَّارِق، وَيَقْتُلُونَ وَيُحِدُّونَ الْقَاتِلِ.
أَفَلا كَانَتْ هَذِهِ الأَحْكَامُ عَلَيْكَ وَعَلَيْهِمْ قَبْلَ أَنْ يَحْكُمُوا بِهَا عَلَى النَّاسِ. فَكَيْفَ بِكَ يَا هَارُونُ غَدًا إِذَا نَادَى الْمُنَادِي مِنْ قِبَلِ اللهِ احْشُرُوا الظَّلَمَةَ وَأَعْوَانَهُمْ، فَتَقَدَّمْتَ بَيْنَ يَدَيِّ اللهِ وَيَدَاكَ مَغْلُولَتَانِ إِلَى عُنُقِكَ لا يَفُكَّهُمَا إِلا عَدْلُكَ وَإِنْصَافُكَ، وَالظَّالِمُونَ حَوْلَكَ وَأَنْتَ لَهُمْ إِمَامٌ أَوْ سَائِقٌ إِلَى النَّارِ. وَكَأَنِّي بِكَ يَا هَارُونُ وَقَدْ أُخِذْتَ بِضِيقِ الْخِنَاقِ، وَوَرَدْتَ الْمَسَاقَ وَأَنْتَ تَرَى حَسَنَاتِكَ فِي مِيزَانِ غَيْرِكَ، وَسَيِّئَاتِ غَيْرِكَ فِي مِيزَانِكَ عَلَى سَيِّئَاتِكَ، بَلاءٌ عَلَى بَلاءٍ، وَظُلْمَةً فَوْقَ ظُلْمَةٍ. فَاتَّقِ اللهَ يَا هَارُونُ فِي رَعِيَّتِكَ، وَاحْفَظْ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم فِي أُمَّتِهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ لَمْ يَصِرْ إِلَيْكَ إِلا وَهُوَ صَائِرٌ إِلَى غَيْرِكَ، وَكَذَلِكَ الدُّنْيَا تَفْعَلُ بِأَهْلِهَا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، فَمِنْهُمْ مَنْ تَزَوَّدَ زَادَ نَفْعَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَسِرَ دُنْيَاهُ وَآخِرَتَهُ، وَإِيَّاكَ ثُمَّ إِيَّاكَ أَنْ تَكْتُبَ إِلَيَّ بَعْدَ هَذَا، فَإِنِّي لا أُجِيبَكَ وَالسَّلام)، وألقي الكتاب منشورا من غير طي ولا ختم فاخذته فأقبلت به الي سوق الكوفه وقد وقعت الموعظة بقلبي فناديت يا أهل الكوفه من يشتري رجلا هرب الي الله فأقبلوا اليّ بالدراهم والدنابير فقلت لا حاجة لي بالمال ولكن جبة صوف وعباءة قطوانية فأتيت بذلك فنزعت ما كان علي من الثياب التي كنت أجالس بها أمير المؤمنين وأقبلت أقود الفرس الذي كان معي الي ان اتيت باب الرشيد حافيا راجلا فهزأ بي من كان علي الباب ثم أستؤذن لي فلما رآني علي تلك الحالة قام وقعد وجعل يلطم رأسه ووجهه ويدعو بالويل والحرب ويقول أنتفع الرسول وخاب المرسل مالي وللدنيا والكلك يزول عني سريعا فألقيت الكتاب إليه مثل ما دفع به الي يقرؤه ودموعه تنحدر علي وجهه وهو يشهق، فقال بعض جلسائه يا أمير المؤمنين قد اجترأ عليك سفيان فلو وجهت اليه فأثقلته بالحديد وضيقت عليه السجن فجعلته عبرة لغيره فقال هارون أتركوا سفيان وشأنه يا عبيد الدنيا المغرور من غررتموه والشقي والله حقاً من جالستموه أن سفيان أمة وحده ولم يزل كتاب سفيان عنه الرشيد يقرؤه دبر كل صلاة ويبكي حتي توفي رحمه الله تعالي .
   وذكر ابن السمعاني وغيره أن المنصور كان يبلغه عن سفيان الانكار عليه في عدم إقامه الحق فتطلبه المنصور فهرب الي مكة فلما حج المنصور بعث بالخشابون ونصبوا الخشب فأتي الخبر بذلك وسفيان نائم ورأسه في حجر الفضيل ابن عياض ورجلاه في الحجر وسفيان بن عينيه فقالا له خوفا عليه وشفقة لا تشمت بنا الأعداء فقام ومشي الي الكعبة والتزم أستارها عند الملتزم ثم قال ورب هذه البنية لا يدخلها يعني المنصور فزلقت راحلته في الحجون فوقع من علي ظهرها فمات لوقته فخرج سفيان وصلي عليه[21].
   رضي الله عن سفيان اذ لولا ورعه وقوة ايمانه وتمسكه بالحق لما نفذت نصيحته الي قلب الرشيد حتي اتخذها وردا يتلوه دبر كل صلاة، وكذلك أنظر الي المنصور الذي كاد أن يشقي بقتله وصلبه فاسعده الله بصلاته عليه فسبحان من أسبق رحمته عليه مع اصراره عن التنكيل به، ان في كتاب سفيان للرشيد وما فيه من عظة وهذي ونصح وفي مناقب سيدنا عمر بن عبد العزيز وماتحتويه سيرته المرضيه وعدله السمح لعبرة لأولي الألباب فهل علي أئمة المسلمين وقادتهم وملوكهم وزعمائهم أن يتمسكوا بما حوته تلك المآثر والصفات أن أرادوا دواما لملكهم وعزة لوطنهم واعلاءا لكلمات ربهم .
          وهل لعلماء هذا الزمان أن يقتدوا بسفيان في ورعه ونصحه ونصرته للحق ويبتعدوا من مجالسة الملوك والسلاطين وذوي الجاه والمال ويقفوا عند حدود الله وينشرون علمهم في مواضعه ولا يكتمونه كما أمرهم الله .
(فائدة تناسب المقام ): قوله تعالي يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون: قال مجاهد اللاعنون هم الحشرات والبهائم يصيبهم الجدب بذنوبهم علماء السوء الكاتمين رواه بن ماجه مرفوعا الي النبي صلي الله عليه وسلم وقال بن عباس رضي الله تعالي عنهما اللاعنون كل المخلوقات ما عدا الجن والانس وقيل ما عدا الملائكة فقط .


[1] سورة القلم : 4.
[2]  سورةالأنبياء:107.
[3] نسبه السخاوي في المقاصد ص 29 – للعسكري.
[4] الكتاب: كتاب دلائل النبوة ص 31 - المؤلف: إسماعيل بن محمد بن الفضل بن علي القرشي الطليحي التيمي الأصبهاني.
[5] قال الحاكم هذا حديث صحيح علي شرط الصحيحين وقال أبو عيسى هذا حديث حسن غريب .

[6] الدلائل (ص 320) أبو نعيم ، وأخرجه البيهقي في الدلائل ، البداية (6/149) / ابن كثير ، الخصائص (ج2 ص 65)/ السيوطي.
[7] حياة الحيوان الكبرى : الدميري. البداية والنهاية - الجزء السادس - باب ما يتعلق بالحيوانات من دلائل النبوة - ابن كثير.
[8] صحيح البخارى رقم الحديث: 1964.
[9] الجفر هو من أولاد الماعز ما بلغ أربعة أشهر.
[10] سورة النساء الآية: 136.
[11] سورة التحريم الآية: 7.
[12] سورة الأَحْزَاب الآية: 33.
[13] سورة النحل الآية: 90 .
[14] رجاء بن حيوة ابن جرول وقيل ابن جزل وقيل ابن جندل الإمام القدوة الوزير العادل أبو نصر الكندي الأزدي ويقال الفلسطيني الفقيه من جلة التابعين قال ربيعة بن يزيد القصير وقف عبد الملك بن مروان في قراءته فقال لرجاء بن حيوة ألا فتحت علي وكان عبد الله بن عون إذا ذكر من يعجبه ذكر رجاء بن حيوة قال الأصمعي سمعت ابن عون يقول رأيت ثلاثة ما ( رأيت ) مثلهم محمد بن سيرين بالعراق والقاسم بن محمد بالحجاز ورجاء بن حيوة بالشام. سير أعلام النبلاء للذهبى.
[15] هو شيخ الإسلام ، حجة الأمة ، إمام دار الهجرة أبو عبد الله مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو بن الحارث بن غيمان بن خُثَيْل بن عمرو بن الحارث ، وهو ذو أصبح بن عوف بن مالك بن زيد بن شداد بن زرعة ، وهو حمير الأصغر الحميري ثم الأصبحي المدني ، حليف بني تيم من قريش ، فهم حلفاء عثمان أخي طلحة بن عبيد الله أحد العشرة.
[16] جامع الترمذى 2624.
[17] السنن الكبرى للنسائى 4179.
[18] حلية الأولياء حديث رقم 8988/ أبو نعيم.
[19] انظر ترجمته في تاريخ بغداد 2: 4 - 36 وطبقات السبكي 2: 2 وطبقات الحنابلة 1: 271 والوافي 3: 232 وتذكرة الحفاظ: 555 وتهذيب التهذيب 9: 47 والشذرات 2: 134..
[20] الإمام السهيلي هو عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد بن أبي الحسن بن حسين بن سعدون بن رضوانبن فتوح الخثعمي السهيلي ، أبو زيد، من أهل مالقة، كف بصره بما نزل به ،وهو ابن سبع عشرة سنة وكان عالماً بالقراءات، واللغات، والعربية، وضروب الآداب، مقدماً في الفهم، والفطنة، والذكاء، فبعد صيته، وجل قدره. وكان السهيلي محدثا، ولغويا، ونحويا، وأديبا، وشاعرا، ومؤلفاً، ومع أنه شاعر مقل، فإن له أبياتا مشهورة في الرثاء، وفي المناجاة، والاستغاثة بالله تعالى .توفي سنة ٥٨١ه. راجع كتاب: البداية والنهاية‏(‏ج/ص‏:‏ 12/390‏)‏ ابن كثير إسماعيل بن عمر الدمشقي المتوفي سنة 774هـ

[21] وفيات الأعيان – ابن خلكان.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق